إنطلقت رسميًا مُنتصف الأسبوع الحالي، المُفاوضات بين مُمثّلين عن السُلطة اللبنانيّة وخبراء من صُندوق النقد الدولي، والرامية إلى الحُصول على مُساعدات وقروض ماليّة. فما هي الوقائع والمَعلومات المُتوفّرة بشأن هذا الملفّ البالغ الأهميّة، في ظلّ الآمال الكبيرة المَعقودة على الدَعم الدَوليّ، في مُقابل التقارير المُتشائمة والمُشكّكة بنجاح هذا الرهان؟.
أوّلاً: المُفاوضات ستتمّ على جولات مُتقطّعة، وهي لن تنحصر مع مُمثّلي الحُكومة والرئاسة، وستطال أيضًا وتباعًا حاكميّة مصرف لبنان وجمعيّة المصارف والهيئات الإقتصاديّة، إلخ. وبالتالي، المُفاوضات مرشّحة لأن تستمرّ لبضعة أشهر، قبل أن تبدأ أيّ نتائج إيجابيّة بالظُهور.
ثانيًا: لبنان يأمل الحُصول على مبلغ وقدره نحو 10 مليار دولار من الصندوق، لكنّ هذا الرقم قد يكون مبالغًا فيه، حيث يتوقّع أكثر من خبير أن تبلغ قيمة مُساعدة الصندوق مبلغًا لا يتجاوز 5 مليارات دولار في أفضل الأحوال، وذلك على مدى سنوات عدّة وليس دفعة واحدة بالتأكيد. ويستند هؤلاء الخُبراء في توقّعاتهم إلى مُساعدات سابقة للصندوق لدول أخرى، منها دول عربيّة مُختلفة، لم تبلغ مُستويات عالية، على الرغم من أنّ حصّة هذه الدول تفوق بأضعاف حصّة لبنان فيها. يُذكر أنّ حصّة لبنان تبلغ أكثر بقليل من 850 مليون دولار أميركي فقط، مع الإشارة إلى أنّ هذه "الكوتا" تُحدّد في المبدأ وفق حجم إقتصاد الدولة المعنيّة، ويُمكن عادة الإستحصال على مبالغ لا تتجاوز 5 أضعاف حصّة الدولة المَعنيّة في أحسن الأحوال.
ثالثًا: الأموال التي يُعوّل عليها لبنان غير مَحصورة بصندوق النقد الدَولي، حيث تتطلّع الحُكومة اللبنانيّة للحُصول على تمويل من مصادر دَولية أخرى. لكنّ مُشكلة وباء كورونا، وما تركته من آثار سلبيّة على الوضع الإقتصادي في العالم أجمع، ستؤثّر حتمًا بشكل سلبيّ على تأمين الأموال في المرحلة المُقبلة، باعتبار أنّ كل دول العالم غارقة حاليًا في مشاكلها الإقتصاديّة والماليّة والإجتماعيّة.
رابعًا: القروض الماليّة تُسلّم على دفعات، وعلى فترات زمنيّة مُتباعدة، يسبق كل دفعة منها تقييم لمدى تطبيق الخطط المرسومة، ولمدى تنفيذ إجراءات الإصلاح المَوعودة. وبالتالي، إنّ من شأن أيّ تخلّف عن التطبيق أو أيّ تهرّب من التنفيذ، أن يوقف المُساعدات! كما أنّ على السُلطة التي ستنشأ في لبنان بعد كلّ من الإنتخابات النيابيّة والرئاسيّة المُقبلتين –إن حصلتا في موعديهما، أن تستكمل التقيّد بالخطة التي سترثها، باعتبار أنّ تطبيق الخُطة يمتدّ على سنوات عدّة– كما سبق وأشرنا.
خامسًا: نجاح الدعم المُنتظر من صندوق النقد الدَولي يستوجب تنسيق السُلطة في لبنان معه بشكل كامل، والتقيّد بكامل شروطه وطلباته، من دون خُطوط حمراء من بعض القوى السياسيّة، ومن دون خلافات وصراعات سياسيّة داخليّة، وإلا صارت كل مُساعدات الصُندوق عرضة للتجميد، وربّما للإلغاء.
سادسًا: من غير الواضح حتى اليوم، طبيعة الإصلاحات البنوية القاسية التي سيطلبها الصندوق الدَولي من لبنان، ومدى إستعداد لبنان أصلاً لتطبيق هذه الشروط. والأكيد أنّ المطالب ستشمل إعادة هيكلة القطاع العام، من حيث الحجم، مع خفض الإعانات، وتعديل معايير الرواتب التقاعديّة. كما ستشمل إعتماد قواعد ضريبيّة جديدة، مع رفع الضريبة على القيمة المُضافة-ولوّ على مُنتجات مُحدّدة، وليس بشكل كامل، وتحسين الجبايات والرسوم، ومنع التهرّب، ومُكافحة الفساد، ووقف التهريب، إلخ. ويُوجد حديث عن إحتمال أن يطلب الصندوق من لبنان خفض ديُونه، ليكون قادرًا على سداد ما سيستدينه من أموال مُجدّدًا، وهذا الأمر في ظلّ الواقع الراهن لا يُمكن أن يتمّ من دون المُرور بجيوب بعض المُودعين(1)، بغضّ النظر إذا كان الأمر سيشمل أصحاب الحسابات التي تفوق المليون دولار (نحو 1 % من إجمالي المُودعين) أو نصف مليون دولار (نحو 2 % من إجمالي المُودعين)، وربّما أصحاب حسابات المئة ألف دولار وما فوق (نحو 8 % من المودعين)، علمًا أنّ إعتراضات بالجُملة برزت على إقتطاع أيّ أموال من هذه الفئة الأخيرة، ما اسقط هذا الخيار مرحليًا، مع تسجيل إعتراضات أيضًا على مبدأ المسّ بأموال أي من المُودعين ككلّ.
سابعًا: قد يطلب صندوق النقد الدَولي إجراءات قاسية من السُلطة في لبنان، منها إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ورسملة نظامه ككل، والأخطر أنّه قد يطلب خصخصة وبيع أملاك للدولة، وتحرير العملة الوطنيّة ورفع أيّ دعم عنها، الأمر الذي قد يضع الليرة في مهبّ مبدأ العرض والطلب(2).
ثامنًا: يخشى الكثيرون أن تتضمّن شروط صُندوق النقد الدَولي مطالب سياسيّة بخلفيّة إقتصاديّة، وأن يُسفر هذا الأمر عن رفض بعض الأطراف اللبنانيّة، وفي طليعتها "حزب الله"، للمسألة برمّتها. وعلى سبيل المثال، قد يطلب صندوق النقد فرض مُعالجة التهريب عبر الحدود، قبل إرسال أي مُساعدة، وقد يطلب تغييرًا في سلوكيّات النظام الجمركي وتمرير البضائع والحاويات، إلخ(3).
تاسعًا: لبنان وكغيره من الدول التي تأثّرت بجائحة كورونا، لن يُحصّل أموالاً مُهمّة من الإيرادات الضريبيّة عن عام 2020، والأمور غير مَضمونة في هذا السياق بالنسبة إلى العام 2021 أيضًا، الأمر الذي سيولّد ضُغوطًا كبيرة على الميزانيّة، وسيضع كامل خطّة إعادة التوازن بين الواردات والنفقات المَطلوبة دَوليًا، على المحكّ!.
في الخُلاصة، السُلطة في لبنان أعلنت خُطتها الإصلاحيّة، وبدأت تدابير ضبط النفقات وإعادة التوازن المالي، إضافة إلى أنّها بدأت أيضًا إجراءات عملانيّة لمُكافحة الفساد ولوقف التهريب، إلخ. لكن هل ستستمرّ بحزم بهذا النهج أم أنّ الضُغوط والخلافات السياسيّة ستعيد الأمور إلى نقطة الصفر؟! والأهمّ هل سيُصدّقها المُجتمع الدَولي فيمدّ يد المُساعدة، وهل ستكون شروط صندوق النقد قابلة للتطبيق داخليًا؟! الأشهر المُقبلة كفيلة بالإجابة...
(1) يُوجد حديث عن أنّ المودعين سيتحمّلون خسائر تُقدّر قيمتها بنحو 44 مليار دولار أميركي، من مجموع 134 مليار دولار هو الحصّة الإجماليّة لأموال المُودعين في المصارف، في حين تجزم مصادر أخرى أنّ هذا الأمر غير وارد ويدخل في سياق الإشاعات.
(2) الخطة الإصلاحيّة كانت تحدّثت عن سعر صرف يبلغ 3500 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي، على أن يرتفع هذا السعر تدريجًا ليبلغ نحو 4300 دولار في العام 2023، قبل أن يتمّ سحب هذا البند من التداول نتيجة بعض الإعتراضات.
(3) يُذكر مثلاً أنّ سوريا التي إنتهت الحرب فيها عمليًا منذ مدّة زمنيّة لا بأس بها، لم تحصل على أيّ مُساعدة ماليّة دَوليّة تُذكر، للبدء بورشة إعادة الإعمار، بسبب العوامل والتأثيرات السياسيّة. ولا شيء يمنع أن يتمّ تحريك هذا العامل من قبل الدول الأساسيّة التي تموّل صندوق النقد، بحيث لا يحصل لبنان على أيّ مُساعدة قبل تنفيذ بعض الشروط السياسيّة!.